خاطب الخالق بلغة الناس البسطاء
رفيق علي أحمد في "وَحشَة" يمسرح الوطن في مدينة
· رسم واقعنا الذي نمجده بقرف وحزن والم دون أن يسمح لنا بالمناقشة
· طبع على جبين الشعوب اللبنانية كلمة "الحقد" التي اوصلتنا إلى الضياع
والتشتت الوطني
· كل الوطن بمنا فيه من تجار وزعامات وملتزمين ومفسدين عفاف!!
· لا عشوائيات في الخطوات ولا ارتجاليات في نص صنع من اجل الارتجال المدروس
بقلم||جهاد أيوب
يخوض المسرحي المخضرم في لعبة المونودراما، والصارخ في وجه الظلم أينما كان رفيق علي أحمد في "وحشة" تجربة جديدة تعتبر امتداداً لمسيرته في البوح دون أن يخونها، جديدها كثرة الصفعات التي يقوم بفعلها في المسرح الفقير كدلالة لحالنا بعيداً عن الغرور الذي نشربه مع ماء الفجر وعصير التعب المستسهل، ووضع النقاط على حروف تحركاتنا دون أن يكون مباشراً، وراسماً واقعنا الذي نمجده بقرف وحزن والم دون أن يسمح لنا بالمناقشة، وإن حاولنا المناقشة نخجل من حالنا، نضحك ومن ثم نعقد الجبين كأننا نلنا النصر الكبير، فالواقع فيه كمية لا توصف من جنون الأنا ومن هبل القتل ومن عظمة الفساد والخبث وخيانات الوطن، رفيق في وحشته طبع على جبين الشعوب اللبنانية كلمة "الحقد" التي اوصلتنا كما أشار إلى الضياع والتشتت الوطني والطائفي والعنصري ونحن ننظر إلى الأخر ونتبسم كلما شاهدنا صورنا على حائط منزلنا ومدينتنا...كل ما في وحشة رفيق يشبهنا بفجور، وينطق به بجرأة نقولها في العتمة، ويقولها تحت إضاءة مسطحة وممرسحة بذكاء الكاتب الناطق والجسد الذي لا يهدأ في بلد أغلبه عفاف، وحكومته عفاف، وساسته عفاف، والمواطن الذي يدعي الإيمان والتجارة والثقافة والمعرفة عفاف في حضن عفاف كما يشير بطل المسرحية "أبو ميشال" هذا الذي تزوج عن حب، وهاجر إلى كندا ليكتشف خيانة زوجته هناك فيعود إلى حضن مدينة بيروت مقهوراً متألماً ويزداد ظلماً وتظلما وقهراً ووجعاً حينما يصبح اسمه كل الأسماء من محمد وجورج وسمعان وعلي وأبو عثمان...وما أن حمل الأسماء التي تدل على طائفة كل اسم ضاقت به الحياة فتناثر جسده بين الأحياء ليلتقي بالهر "عنتر"، يصادقه ويكتشفا معاً أسرار المنازل، ووجوه المارة، وحكايات جدران المدينة التي تخبئ خلف كل حجر قصة وفضيحة وخيانة وغصة خلف كل صلاة، وكل دعاء، وكل المتاجرة بالبشر والقيم.
المسرح
تعمد رفيق أن يلعب حكاياته على مسرح فقير يشبه في العمق فقر واقعنا مهما ارتدينا من ملابس فاخرة وتعطرنا بالعطور الباريسية الثمينة، قبل العرض بساعات دخل رفيق الصالة كي يصادق ديكوره والمستطيل، خاف من ضخامة الخشب وما شابه، فقرر هجرة المكان والاعتذار عن العرض بحجة وعكة صحية مفاجئة المت به، وبجنونه المعتاد خاض ثورة التغيير نازعاً هذا الخوف من مجسمات مرتفعة، وابدلها بقطعة قماش سوداء وقليل من رسومات عبر إضاءة مدروسة فيها عتمة الحكاية وعمق الصورة للدلالة على الحدث ليس أكثر، مضيفاً مقعداً اعتدنا الجلوس عليه في حديقة الصنائع ومجسمات بشرية تاركاً لنا الترحال إلى خيال غزير لا يحتاج إلى صورة بقدر حاجته إلى ذهن متدفق يعرف طبيعة الأمكنة بما حملت .. تدرب على ما حاكه وخرج إلى النور من زحمة عتمة المكان ليقدم تجربة ناضجة واعية لكل حركة في لعبة المسرح الكاذب، لا عشوائيات في الخطوات ولا ارتجاليات في نص صنع من اجل الارتجال المدروس لا الفوضى المعتمد على الحشو الكلامي والتهريج.
العمق المسرحي
"وحشة" مسرحية الفصل الواحد بكثافة مشهديه تعتمد على الكلمة والذهن والخيال المشغول بحركة الإضاءة المسطحة وبعض التأثيرات الصوتية الجانبية التي لم نكترث لها، وأصر رفيق البطل والمخرج والكاتب أن ينطلق من صور جميلة وسياحية وفنية ثقافية عن بيروت زمان، وبعدها مباشرة يدرك المشاهد انه في زاروب من زواريب المدينة، وحوار أبو ميشال السكران دائماً مع "عنتر" وحكاية الذي مات ولا يزال عضوه منتصباً، وخيانات المرأة التي رافقت كل جوانب الحكاية وتركيبها القرون للرجال انطلاقاً من حكاية النبي يوسف وزليخة، ويوحنا المعمدان وسالومي، والنبي لوط وزوجته التي جمدها الله، ومعالجات أوجاع الناس وأمراضهم في الوطنية داخل وطن كل من فيه يحقد على الاّخر، والبحث عن الجار، والجار قبل الدار مقدماً هنا ودون ان يقول تحية إلى الأسطورة صباح التي رحلت منذ برهة من خلال أغنيتها الشهيرة "مرحبتين" معللا الأسماء الطائفية فيها والمتصارعة من محمود ومعروف والياس وحسين، ولكن مشهديه حواراته مع برميل النفايات واكتشاف حقيقة الناس من جراء أوساخها كان الأعمق والأصل والمحور والانتقاد إلى أن قال مباشرة للأغنياء والشعب اللبناني جراء ما يقوم به الوزير أبو فاعور:" كلنا مثل بعض مناكل من الزبالة، بس نحن مناكل ببلاش وانتم بمصاري".
الهجوم المرتقب
قد يأخذ بعض المعقدين على رفيق ويهجمون ويثورون عليه غضباً وخوفاً من جرأته العالية والصارخة في طرحه لكثير من الأمور في مشاهد قمة في البوح القاس خاصة حينما بدأ بالكلام عن حالنا واحوالنا ووضعنا وموت شبابنا مع الله، وتفسيره لبعض ما جاء من سير الأنبياء في كتب سماوية، أراد أن يكون واضحاً لا أن يختبئ خلف الغرف السوداء ليكون شاهداً صامتاً عن جرائم تحدث باسم الطوائف والفكر والمذاهب والوطن، تحدث ببساطة وبعيداً عن تعقيدات اللغة العربية، وفذلكات اللسان الفصيح، أراد أن نفهم عليه الشرح والمعنى والقصد لا أن ينطق ونصفق لبلاغته دون أن نفهم، هنا رفيق تعمد أن يدخل المعركة بكل سلاحه الفكري وتجربته المسرحية، واضعاً أمام الجميع بصماتهم على أمراضنا وتخلفنا وحقيقتهم، وصولاً إلى دعوة الناس للانسحاب من الأرض الوطن وطلب الموت والصعود إلى السماء، نعم مشهديه القبور التي احتضنت شبابنا قمة في الروعة سرق روعتها لحظة صرخته:" ما في راحة ع الأرض" وصعوده إلى السماء!!
رفيق علي أحمد في "وحشة" على مسرح "مونو" انقذ مدينة بيروت من غياب المسرح فيها، وفتح نافذة مسرحية تعيد إليها بعض البريق الثقافي الذي فقدته، وحمل راية المغامرة لربما يشعل شمعة في ظلمة المسرح اللبناني، رفيق الذي قدم وحشته لروح أنطوان يوسف حرب والناقد نزيه خاطر، وشكر عبيدو باشا والمخرج طوني أبو الياس قدم كتاباً لا يناقش لأنه الواقع، فكراً صافعاً مع دلالات الفضائح، وجريمة وجب معاقبته عليها لأنه كشف عوراتنا الحقيقية وبواطن صورنا التي عراها رغم سقوط دمعته أكثر من مرة.
ملاحظة: منذ 25 سنة قدمت معرضاً في قاعة المنتدى بعنوان" إنسان يبحث عن ذاته" وطلبت من الشعوب اللبنانية أن تدعوا الخالق بأخذ ارواحهم أو ينتحروا لأن الأرض لم تعد تتحمل الدماء ولا راحة فيها، واليوم رفيق يطالب بالرحيل إلى الخالق من جور الأرض وهذا يعني أن الزمان لا يزال معلقاً ونحن لا نتطور...