حينما يصبح الغناء سحراً ودهشة وسرقة
جاهدة وهبه في «شَهْد أراجيح للكبار» عكس التيار
بقلم: جهاد أيوب
تخيم على أفكارنا ونحن نغرف من ألبوم جاهدة وهبه «شَهْد… أراجيح للكبار» الدهشة والسحر، فهي تغمرنا بثقة وتجعلنا نسبح معها عكس التيار السائد في زمن لا قيمة للعلم والجمال والمعرفة والموهبة والجهود فيه، وغالبية الوسط الغنائي اليوم تركض وراء الثراء السريع والشهرة الكاذبة على حساب الإبداع، لذلك دخلنا غرفاً مظلمة، لا أحد يعرف ماذا يحدث فيها لكننا نشاهد النتيجة، والنتيجة للأسف بالية تضر الإنسان شكلاً ومضموناً!
جاهدة مغامرة تسبح في بحور الكلام النظيف الهادف والمشغول بحنكة الوعي، حيث الصفعة المحببة لتجد ونجد معها الجملة اللحنية الناطقة بالوصف والخيال والنغم فارغة من الإبداع والإنسان! الجميل وغير المستنسخ أو المسروق من بلاد فارس واليونان وتركيا وبلاد الغرب، هي مغامرة لأنها تنتج في زمن لا مجال للفن والثقافة والأدب والغناء والموسيقى فيه، بل الحضور لبشر يفكرون بأقدامهم، وينتشون من خصر جارية ترغب بخلع ملابسها، ودماء تتساقط رخيصاً لا قيمة لها بحجج العنصرية والطائفية والمذهبية، مغامرة لكونها تنشد وتلحن باحثة عن الجديد الثري والملفت لا الملفت لكونه فارغاً. هذا كله جمع في كأس من فراغ الإنسان وقالوا عنه هذا الزمان، لذلك مغامرتها جنونية لا شرك فيها، وقد تكون صاحبة المغامرة ثائرة على هذا الواقع في زمن الخريف العربي كي لا تشبهنا ولا تكون شاهدة زور على حقبة لا إنسان ولا حضارة فيها!
شعور الدهشة
جاهدة هنا تصيبنا بالدهشة التي سكنتها من خلال اختيارات شعرية رائعة في معانيها، ومسكوبة بوتر فاضت منه رائحة النغم. نعم للنغم الجميل رائحة معطرة بمسك الحنين والأصالة حينما يخرج غناء من صوت لا يعرف غير التحدي والحب ولا يشيخ، لتكون «نجمة الصبح» مع الشاعر طلال حيدر خير دليل، «بس تمرقي بالنوم بيقولوا العرب أهلا وبتمرق الغزلان من حدك على مهلا» رافقتها أنغام من تلحين جاهدة التي أدت بكثير من الشغف والمقدرة الصوتية حتى أصابتنا بداء النشوة والدهشة، ومن ثم تنهدنا لأننا كدنا وربما وقعنا في التصحر السمعي باقتدار الغرور والموروث، عادت وكررت فعل إدهاشنا في «سوناتة حب رقم 8» للشاعر التشيلي بابلو نيرودا عربته جومانا حداد لو لم يكن لعينيك لون القمر لون النهار بطينه وكده وناره في عناقك أعانق كل الوجود الرمل والوقت وشجرة المطر وكل ما هو حيّ كي أحيا أنا . قصيدة ناعمة في مفرداتها ثرية في معانيها وغاية في الروعة بأداء معبر فضفاض لا يعرف غير التفرد.
ومع أدونيس سرقت منا الوقت، وأشعلت لحظات وجودنا كي نرحل معاً إلى غيمة تصنع مجدداً الدهشة والسحر فكانت «لك عطر يجيء من العنق والصدر، من آخر الخاصرة يتقطر ينساب أنساب فيه أتفتح، جسدي طين حب، وأسلمت نفسي إليك»، ومن جديد أعادت سرقتنا من زحمة المكان مع محمود درويش «أنا وحبيبي صوتان في شفةٍ واحدة»… هنا تنكسر الكأس، ويحل الصمت، وتصاب النظرات بداء الدهشة مجدداً فنحن في حضرة الحلم!
وما غنته من شعر أنسي الحاج كان تحية وفية ليس له بل لأرواحنا المنسابة إلى الجمال، وكذلك مع «وصال» للإيرانية فروغ فرخزات والأندلسية ولادة بنت المستكفي في نوم يداعب عيون حبيبي.
سحر الأداء
لا تبحث جاهدة عن الأداء السهل بقدر بحثها عن السهل الممتنع، والغناء الصحيح والنطق السليم، ومخارج حروف المشغولة بثقافة فهم ما تبوح، هي لا تغني ولا تتحدث ولا تطرب بل تبوح بمعرفة الواثق كي تسحرنا، لا تنفعل ولا تتصنع بل تفرض علينا سحرها الذي يعيدنا إلى مجد الحكاية، ولا تتعمد إشغال صوتها بالعِرب بحجة أنها متمكنة لذلك لا صراخ ولا عويل ولا إزعاج لأسماعنا، سحرها يبعدنا عن أسطورة الزمن الكاذب المشغول بتكنولوجيا التهكم لنبحث عن أسطورة ترفع من معنوياتنا. نعم جاهدة وهبه تسرق لحظات من أعمارنا لتقدمها هدية لأرواحنا كي ننتعش، ونفرح أنفسنا لكوننا شعرنا في زمن البشر أننا من الإنسان المتعطش إلى الصوت الذهبي، والأداء المعطر بعبق الجمال، والمطرز بمفردات من عباءة الشرق… شكراً لألبوم «شَهْد». لقد أعادت إلينا جاهدة وهبه حب الشرق ونظافة السمع وعمق ما تبقى من تاريخنا الذي لم يُزوّر بعد.