الأسطورة صباح والأخوين رحباني والتعاون المختلف .

كل من عمل مع الأخوين رحباني ذاب بهما بينما ذابا بصباح فنياً


■ لماذا هدد الرئيس شمعون الأخوين رحباني بالنياشين أو الإعدام رمياً بالرصاص ؟!
■ فشلت فيروز في بعلبك فانزعجت لجنة المهرجان ولم تكتم غيظها وتذمرها!!
■ صباح كسرت أجواء "الليالي اللبنانية" واستقطبت الجمهور وبسببها تصالح المهرجان مع أهل بعلبك !!

بقلم | جهاد أيوب

في أكثر من جلسة كان يقول ويعيد المبدع عاصي الرحباني:" وديع الصافي يهدم في صوته قلعة بعلبك، وصباح تعيد بناء القلعة بصوتها وموالها"...من هنا سننطلق في الحديث عن تعاون الأسطورة صباح مع الرواد من أمثالها في الفن العربي، وهذا الحديث يطول كما هو حال بعض من سبقها و جايلها، ولكن تجربة صباح مع الأخوين - عاصي ومنصور الرحباني - لها نكهة خاصة، ولغة فنية وإنسانية جميلة، فالأخوين كانا يفرضان قوانينهما الفنية على كل من يعمل معهما، وتصل هذه القوانين إلى ذوبان أي فنان يشاركهما العمل حتى تتلاشى شخصيته لتصبح شخصية رحبانية مدروسة بالسطر والمسطرة والنقطة والفاصلة، بينما مع صباح أو الشحرورة " لقبت آنذاك بالشحرورة نسبة إلى عمها الزجال الشهير شحرور الوادي" كانت المعادلة متكسرة ومختلفة كليا، إذ ان الأخوين ذابا بتجربة وفن وشخصية صباح، وانطلقا فيما قدماه من أعمال معها من طبيعة صباح الفنانة والإنسانة، فقط تحسب لهما دراسة وتنظيم الحركة| الكلمة| الجملة الموسيقية| والنص المسرحي، لذلك قال عنها عاصي: " شو ما عملت لها أعمال، حتى لو ألبستها خيشه تبقى صباح هي صباح ، صباح صنعت صباح ولا نستطيع تقديمها بغير صباح"، يضاف إلى ذلك أنهما كتبا ولحنا أغنيتين يتيمتين شهيرتين لا تعرفا الأفول تحمل أسمها، و أول أغنيتين في العالم تحملا أسم المغني فتشتهرا وتصبحا فولكلوراً وتراثاً، الأولى هي:"جيب المجوز يا عبود| ورقص أم عيون السود| وخلي الشحرورة الصبوحة تغني ويهب البارود"، والثانية :" يا طير الزعرورة | وديلو هل الصورة| وقلو بالقفص ع العين علقاني شحرورة" والمعروف عن الأخوين رحباني أنهما لا يكتبان أويلحنان لأسماء الزعماء والمشاهير!!

حقيقة بعلبك والرحابنة

الأخوان كانا في سلك الدرك، وكانت هي مشهورة في أفلام مصر، تزور لبنان في الصيف حيث تشارك في حفلات المناطق اللبنانية، وكان قد تعرف عاصي على والد صباح وطلب أن يسمح له ولشقيقه منصور بالعزف على البزق خلف ابنته خلال تقديم فقرتها الغنائية، سمح والد صباح بذلك، ومنذ تلك النغمات تعرفت الصبية المشهورة على عاصي المغمور بالحلم، و الذي تعتبره الركن الأساسي في الحلقة الرحبانية، وأيضا تعرفت على منصور... تقرب عاصي من صباح كثيراً، أحبها، وهي بدورها احترمته لأنه كان مبدعاً منذ البداية، علم والدها بالأمر بعد أن طلب عاصي منه الموافقة على زواجه من ابنته، رفض الأب، وطرده من الفرقة بحجة أنه فقير وغير معروف، فكان الفراق، واستمر عاصي بصداقته وإعجابه واحترامه لصباح حتى مماته، وكان يصر على أن يقدم لها بعض الأعمال رغم انزعاج منصور أحياناً ورفض فيروز لذلك، لا بل أخبرني الفنان التشكيلي العالمي هرير وهو صديق لفيروز أن جارة القمر كانت قد أخبرته أكثر من مرة بأنها ضربت كثيراً من قبل عاصي بسبب صباح، وكاتب هذه السطور سمع من أحد المقربين من فيروز إنه في عام 1970 بينما كان محمد عبد الوهاب في لبنان طلب زيارة منزل الأخوين رحباني وفيروز بشرط وجود الصبوحة لتناول العشاء، فاتصل هذا المقرب من العائلة الرحبانية بصباح طالبا منها إحضار طعامها معها خوفا من أن تضع فيروز لها السم بسبب غيرتها ( ربما كان يمزح وربما كان صادقا، وهو لا يزال حياً وأخبرني شخصيا بذلك كما أخبر صباح التي اعتبرت كلامه مزحة)!!

بعد فترة كانت إذاعة الشرق الأدنى من بيروت حالة ثقافية مهمة، فقدم الرحابنة أول أعمالهما في الإذاعة لصباح أوبريت" الموسم الأزرق"، فيروز ونصري شمس الدين ومنصور كانوا كومبارسا في تلك الأوبريت، وكان عاصي بطلاً أمام صباح ، آنذاك كانت شخصية صباح الغنائية واضحة كلياً لذلك كتب النص لها وعنها وفيها وحولها بكل تفاصيله، وموال تلك الأوبريت يقول:" شو بقي من العمر إلا شو بقي غير المحبة وغير هل وعد النقي"- الأوبريت عندي لمن يرغب، والتسجيل نادر الوجود - ".

بعلبك

عام 1952 تسلم الرئيس كميل شمعون الحكم في لبنان، وطرحت زوجته السيدة زلفا (المعروف عنها ذوقها وثقافتها وعلمها وكرمها وأناقتها وحبها للوطن وشعبه)، التي كانت كثيرة السفر لدول الغرب، تشاهد مسرحه ومهرجاناته، لذلك طرحت فكرة مهرجانات للفن اللبناني الراقي ضمن مهرجانات بعلبك الدولية، ومنذ البداية طلبت أن تخصص ليلة لبنانية تبدأها صباح.

اتصل الرئيس شمعون بعاصي الرحباني معلناً عن رغبته تلك، وتكليفه العمل على تحقيق الليالي اللبنانية في مهرجانات بعلبك، وتم اقتراح أن تكون البطولة لصباح، إلا أن عاصي أشار بأن صباح نجمة ولن تقبل، ولن تتخلى عن أفلام السينما المصرية لتشارك في المهرجان، فأنطلق المهرجان بمقاطع غنائية لفيروز والمجموعة، حينها لم يحقق الحفل النجاح المطلوب، وبعدها كانت أيضاً الليالي اللبنانية مع الرحابنة و لم تنجح نجاحا مدويا كما اعتقدت اللجنة ووعدت خاصة بعد أن قاطعها أهل بعلبك، وغاب عنها السواح العرب، وكرت المسبحة ولكن...



هنا لا بد من أن نضوي على رأي أخر حول مهرجانات بعلبك، وبحسب ما قاله الموسيقار توفيق الباشا فقد أدرجت "الليالي اللبنانية" في مهرجانات بعلبك بعد تدخل زلفا كميل شمعون، زوجة رئيس الجمهورية آنذاك، وضغطها على لجنة المهرجانات لتحقيق ذلك.. أما منصور الرحباني فذكر إن حبيب أبو شهلا استدعاه وأخاه عاصي، وبحث معهما في أحياء "ليال لبنانية" لكسر سيطرة البرامج الفنية الأجنبية، وتالياً حدث تدخل الرئيس شمعون وزوجته زلفا محرضين ومشجعين، ومما قاله الرئيس للاخوين مازحاً: "كنتيجة لما ستقدمانه في بعلبك إما بنيشنكم (أي نضع على صدريكما أوسمة ونياشين)، وإما بنيشنكم (أي نعدمكما رمياً بالرصاص في حال إخفاقكما)".

وقدم الأخوان رحباني ومعهما فيروز التي كانت في بداياتها، ويقال أن منصور اعترض و لم يتشجع لصوت فيروز في تأدية الفولكلور، وتمنى غيرها إلا أن عاصي كان حاسماً بذلك، و قدموا "أيام الحصاد"، وهو عبارة عن رقصات فولكلورية تخللتها أغنيات خاصة بفيروز، هذا البرنامج الغنائي الفولكلوري كان الأول الناطق بالعربية في مهرجانات بعلبك الدولية، وفي الحقيقة لم تكتم لجنة المهرجانات آنذاك غيظها وتذمرها من تقديم هذا البرنامج في المهرجانات الدولية، ظناً من أعضائها أن "الأغنيات ستطول وستمزق المناديل وسط نحيب الجمهور"، بحسب ما أورد مفيد أبو مراد في كتابه عن مسرح الأخوين رحباني، نقلاً عن إحدى عضوات اللجنة.



لم يوفق الرحابنة مع فيروز بكل ما قدموه في البداية لمهرجانات بعلبك خاصة أن الجمهور البعلبكي واللبناني والعربي قاطعها، ومع ذلك برنامج "الليالي اللبنانية" الذي دشنه الرحبانيان في بعلبك لم يلبث ان أسفر عن بروز إمكانات مختلفة، وببطلة أيضا مختلفة عن فيروز، أي في عام 1960 كانت صباح فاختلف ميزان المهرجان كلياً، يضاف مثابرة الرحابنة هنا في إعداد وتنفيذ أعمالاً فرضت نفسها مع بطلة مغايرة عن بطلتهما، ونالت إعجاب اللجنة والجمهور معاً، ومع صباح بدأت الليالي اللبنانية تستقطب جمهوراً واسعاً، وتحولت عروضها إلى احتفال يتوافد إليه حشود من اللبنانيين والسوريين والمصطافين العرب والأجانب، وفي تلك الليالي العشر كانت ارتال السيارات وأضواؤها والغبار الخفيف تملأ الطريق الذي يخترق سهل البقاع بين بعلبك و شتورا ورياق وزحلة وصولاً إلى ضهر البيدر، حتى ساعات متأخرة من الليل.

قال منصور عن تلك الحقبة:"كنا سعيدين في تلك اللحظات، والسعادة تلك كانت كناية عن ومضة كهربائية عابرة كنا نعيش تحت تأثيرها فترة طويلة، فهي تشبه حصاة صغيرة تسقط على صفحة مياه راكدة فتغرق فجأة إلى القعر، فيما تستمر التموجات فترة أطول على صفحة المياه، كانت سعادتنا تبدأ حين نشرع في كتابة العمل، وتبلغ ذروتها حين نراه مجسداً على أدراج القلعة التاريخية، آنذاك يميل العمل إلى أن يصير من الماضي، لكن الحزن والأسف يبدأن في حفلة الليلة الأخيرة، بعد أن يخرج الناس وتفرغ القلعة منهم، فنبقى، عاصي وأنا وبعض العاملين معنا ننظر إلى الملابس والديكور والكراسي الفارغة وأصداء الليالي التي مرت سريعاً مثل حلم... عندها كان علينا أن نعود إلى عزلتنا ومشاكلنا اليومية الصغيرة، ولكن ذلك كله لم يكن يفضي بنا إلى غير القلق والتفكير بالعمل القادم، فما الذي يبقى من الرواية؟! يبقى قصص صغيرة تشردها الريح؟!".

تنبهت إدارة المهرجان للضعف الفني الذي كان مع فيروز وما أصبح عليه مع صباح، و أدركا خطورة غياب الجمهور اللبناني وأبناء بعلبك عن الليالي اللبنانية، و قررت أن تتواصل مع أهل المنطقة، فأقترح أن تكون هنالك الليالي اللبنانية الفولكلورية بصورة مختلفة كلياً عما قدم شكلاً وموضوعاً وعناصراً، أو تقديم مسرحية قريبة للأوبريت الغنائية، ويقال إن زوجة الرئيس شمعون هي التي طلبت مجددا بأن تكون صباح بطلة أول عمل بهذا النوع مع وديع الصافي، و مشيرة إلى شهرة الصبوحة العربية الواسعة وعلاقتها مع ملوك وأمراء العرب الذين سيأتون إلى بعلبك لحضورها، وحب العائلات البعلبكية لها، وبالفعل ما أن شاركت صباح في مهرجانات بعلبك حتى تهافت الملوك والأمراء العرب لحضورها، وبالأخص الملك الأردني حسين، وبعضهم كان يأتي سراً، وهنا عرف عاصي استغلال الموقف بحضور الملوك والأمراء، وقدم ديو تنافسي بين وديع وصباح حيث جمع في يوم الإعلان عنه كل الصحافة اللبنانية والعربية، ونقلت عشرات السيارات و الباصات الصحافة والمسؤولين والجمهور من بيروت إلى بعلبك لمتابعة المبارزة بين صباح ووديع، كما دغدغ عاصي أهل بعلبك بأغنية تحمل تحية لهم عبر صوت صباح " ع الليلكي ع الليلكي زهر العصدرك ليلكي مشمش بعلبك ما استوى لولا استوى جبنا ليكي" أحدثت هذه الأغنية حالة من الجنون والإلفة في حينه... أتصل الرئيس شمعون رغم تركه الرئاسة آنذاك بصباح كي تأتي من مصر للمشاركة بمهرجانات بعلبك الدولية بعد أن همس له عاصي بأنها لن توافق لكنها خيبت ظنه ووافقت، وتم الاتفاق من قبل اللجنة وصباح ووديع الصافي والرحابنة، وقد صرف لصباح مبلغاً مالياً أعتبر كبيراً في حينه عن عشرة أيام المهرجان " 10 ألاف ليرة لبنانية"، بينما وديع صرف له "5 ألاف ليرة لبنانية "، وكان " موسم العز" بين صباح و وديع ونصري شمس الدين في العام 1960 و أخرجه كمال التلمساني، وهذا الأخير كان قد أخرج لصباح في عام 1985 فيلم " سلم سلم عالحبايب" لذلك كانت حركة صباح أكثر حرية لكونها تدرك مع من تتعامل، العمل بمجمله إشراف، و تأليف وألحان الأخوين ما عدا أغنيات " يا أمي طل من الطاقة"، و"عم تغزل"، و"يا طير الزعرورة" تأليفهما وألحان فيلمون، و"يا وردة من فوق العين" تأليفهما وألحان وديع الصافي، و "إن كان بدك تعشق" و "على دلعونا" و" ياظريف الطول" فولكلور، و"أبو الزلف" ألحان صباح عبر طريقة ابتكرتها وتخصها وتحديداً في تطويل الموال وسرده كنغم جديد في نطقه حتى غدت فولكلوراً لبنانياً وشامياً اليوم .

" موسم العز" تجربة أولى ووحيدة جمعت كل التراث والفولكلور القروي اللبناني من بيروت والشمال والبقاع والجنوب، وقدم بسلاسة في عمل استعراضي مسرحي وصف بأكثر من رائع في تاريخ الفن العربي، تجربة على مستوى راق جداً، والأخوين رحباني عملا جهوداً قاسية، وبحثا عن التراث في كل لبنان حتى كان " موسم العز" مدرسة بكل المعاني، والأهم أن المهرجان تصالح مع أهل المنطقة في حينه، بعد ذلك استغل الرحابنة نجاح العمل ليقدما أعمالهما منفردين مع فرقتهما الخاصة وفيروز، وفي عام 1965 كان التعاون الثاني بين صباح والأخوين رحباني من خلال أوبريت " دواليب الهوا" في بعلبك مع نصري شمس الدين، وفيلمون وهبي ومنصور الرحباني، وكان بداية ظهور شقيقة فيروز الفنانة هدى حداد، وجوزيف ناصيف، ومحمد مرعي، وسهام شماس، ووليم حسواني، وايلي شويري، والفرقة الشعبية اللبنانية، العمل كان رائداً في لعبة المسرح الغنائي من حيث الغناء الاستعراضي وتلحين الحوارات الغنائية، والنص، والموسيقى والرمزية السياسية، وطبيعة الحياة الاجتماعية التي أخذت من الريف لونه ومن المدينة حياتها وتطورها والمصلحة المادية والسلطة والزعامة وشراء الأصوات الانتخابية والحب، بعد ذلك ابتعدت صباح عن العمل الرحباني إلى أن وقع الطلاق بين عاصي وفيروز فصرح منصور بتعاون مسرحي مع صباح باسم " راحت أيام التانغو" لكن العمل لم ينفذ بسبب الحرب اللبنانية، وتم العمل مع صباح والرحابنة في سهرتين تلفزيونيتين لمصلحة التلفزيون الأردني لم يكتب للأغاني التي غنتها صباح النجاح، وانتقدت على غنائها تلك الأعمال من قبل الصحافة حتى التجريح، فابتعدت صباح عن الرحابنة بإرادتها، واكتفت بأعمال إلياس الرحباني !!

ملاحظة هامة

قبل الحديث عن غناء صباح لأعمال الأخوين نشير إلى حقيقة لا يعرفها أحد، وهي أن كل ما غنته صباح من مواويل كان من تلحينها، وأحيانا تأليفها باستثناء موال أغنية "يا معلم" من ألحان محمد الموجي، وما جاء عليه "أبو الزلف" و"الميجانا" اليوم هو تلحين صباح وبطريقة خاصة بها من أجل أن تتميز الأغنية اللبنانية بخصوصية الموال الذي جاء أصلاً من بلاد العراق، وكل ما يردده ملحم بركات وملحم زين وعاصي الحلاني ووائل كفوري ومعين شريف ونجوى كرم هو موال ابتكرته صباح، وأصبح اليوم تراثاً...

غناء رحباني بصوت صباح

في "موسم العز" غنت صباح تأليفا ولحنا للرحابنة " حلوة الساحة" ، وتنافست مع وديع ونصري في زجلية رائعة " قالوا القوالة" ، ومن ثم زجلية "نجلا وشاهين"، و" ونجلا ومرعي" ، و"عالليلكي"، و"مشهد العيد" " تقيلي"، و"قطف الحرير"، و"يا وردة من فوق العين"، و"الهوى شو قليل الزوق"، و"القوي لبنان"...أدت ببراعة 8 مواويل منفردة أو مع وديع ونصري أحيانا، و8 أغنيات منفردة، بينما وديع أدى ببراعة 6 مواويل منفردا أو مع صباح، و6 أغنيات لنجد هنا أن الرحابنة استغلا وجود صباح فأكثرا لها بالمواويل والأغاني المنفردة فقدما وجبة غنائية منوعة وفنية راقية لاعتقادهما أنها ستصل إلى الجمهور اللبناني والعربي وتنتشر بسرعة، وهذا ما حدث، واعتمد الرحابنة على مقدرة الصوت وتلوينه وانتقاله من مقام إلى أخر بسلاسة، وأدركا شخصية وشهرة صباح فقدما لها ما ينسجم مع طبيعتها، أعمالهما هنا مباشرة ومشغولة بفهم عميق ينسجم مع الحدوثة ككل، ومع خصوصية الصوت فنجدهما أكثرا من مواويل صعبة لصباح، ويعجز كل من يغني اليوم أن يتمكن من غنائها، لا بل قالت لها أم كلثوم عن غنائها لتلك المواويل مباشرة ودون تسجيل: " يا مجنونة إزاي تغني كذة حرام عليك، ما حدش يقدر يقول موالك"، كما أصرا على التلوين الغنائي قصدا بمقامات مختلفة وصعبة الوصول مع أن الغناء كان حياً ومباشراً معتمدين بذلك على خبرة وقوة صوت وديع وصباح، وفي الشعر استخدما الرمزية والتصوف والشعبي البسيط الثري بصور راقية وغنية بالجمل الرشيقة الهادفة، وفي اللحن قدما الجملة الجديدة المنغمسة بالبيئة مع أنهما أدخلا بعض الجمل من الموسيقى العالمية في أجواء لبنانية شرقية بامتياز، ولم يعتمدا على نمطية شعبية تتكرر في كل الغناء آنذاك، بل جعلا لكل أغنية أجواء وصور معنية بالكلمة وسحرها الخيالي الرشيق يضاف إليها النغم العميق بالتراث كي يصبح فيما بعد حقيقة و مدماكا للأجيال، ونجحت فكرتهما مع الزمن، كذلك تعمدا في المواجهة الصوتية بين صباح ووديع بفرض عضلاتهما بأجمل ما يكون في الغناء العربي "الديو" من "زجل" وتراشق بالمواويل المدروسة في خط درامي محدد، وفي هذا المجال يقول صبري الشريف في مذكراته أن وديع خلال تأدية الموال مع صباح تعمد رفع صوته كي يضعفها أمام الجمهور، ويصفق له أكثر، إلا أن الرحابنة وصبري تنبهوا لذلك المقلب فعملوا على تخفيف نبرة صوته من جهاز الصوت، فكان يصرخ دون أن يسمعه الجمهور، كما أدركت صباح بذكاء لعبة وديع على المسرح فكانت تمد وتطول بالأوف حتى يجن الجمهور طرباً، ويسعد بذلك الرحابنة لأن الملوك والأمراء ورئيس البلاد أيضاً يعجبون بتلك الحركة، وحينما أراداها أن تغرد طرباً كان لحن فيلمون "يا أمي طل من الطاقة" بمقامات مدروسة وثرية مع موال صعب الأداء، هذه الأغنية مع أغنية " يا أمي دولبني الهوا" أدهشتا محمد عبد الوهاب، وأستمر بالاستماع إليهما لمدة 3 أشهر دون انقطاع كما روت زوجته نهلة القدسي في حوار خاص مع الإعلامي الراحل حكمت وهبي في إذاعة "مونت كارلو" عام 1985.

دواليب الهوا

في "دواليب الهوا" للاخوين رحباني، إخراج صبري الشريف، قدمت تجربة ناضجة و شبة مكتملة على صعيد الأغنية والكلمة واللحن والمسرح الاستعراضي كأوبريت عربية بكل عناصرها، ربما البعض سيقول إن سيد درويش قدم بعض النماذج الغنائية الاستعراضية سابقاً، ولكن ومن أجل الإنصاف لم تكن مكتملة، ولم تصل إلى ما وصلت إليه أعمال الأخوين رحباني، خاصة في أوبريت "دواليب الهوا"، في هذا العمل اكتملت أدوات الرحابنة في الفهم العميق للتراث ولتطوير المسرح الغنائي مع العمق السياسي، تفوقا بكل تفاصيل العمل، ووصفت المسرحية من قبل النقاد والمختصين الأجانب والعرب بالعمل النادر والصفحة الإبداعية التي لن تتكرر، ولا عجب إن ظهر للرحابنة بعد هذا العمل أكثر من مسرحية سياسية اجتماعية ثائرة تبحث عن وطن في حكاية نابعة من الناس والظلم والتخلف السياسي كـ " جسر الحجر"و "جبال الصوان"، و"صح النوم"، و"ناس من ورق"، و"ناطورة المفاتيح"، و"لولو"، كما أن هذا العمل يمكن أن يقال فيه أنه أفضل أعمال صباح المسرحية، غنت فيه مشاهد "بيع القصب"، و" يا ريت ما اسمي حلا" و " حلا والبياع"، و "السهرة، وتسمية العيد، و"المفاوضات"، و"يا أهالي الحارة"، و"مين قال مين"، و"لو بتشوفوا الحارة الفوقا"، و"عوافي يا إخوان"، و"لوين يا بياع"، "حرق الورق"، و"يا سوق الورق واللون"، "بيع الدواليب"، و أغنيات "عالدار دور يا قمر"، و"ياخيل بالليل اشتدي"، و"سفرني معك"، أما أغنيات" عني يا منجيرة"، و "عتيمة عالعتيمة" و" ويا أمي دولبني الهوا" فهي من ألحان المبدع فيلمون وهبي، و" ميلوا علينا" الحان إلياس الرحباني.

من الواضح أن الرحابنة مع صباح استغلا شهرتها وطلتها ومقدرتها بتلوين صوتها بشكل كبير ليسجلوا للتاريخ حقبة تراثية خاصة، و معلنين نهاية هكذا أعمال تراثية لن تتكرر، ومنطلقين إلى عالمهم المقبل بعد اكتمال صورتهم للمسرح الغنائي التراثي في " موسم العز"، والتراثي الاجتماعي ألتسييسي في "دواليب الهوا".

في "دواليب الهوا" قدمت صباح 6 مواويل بينها موال مع نصري وأخر مع إيلي شويري، و16 أغنية منها 2 ديو مع نصري، و2 ديو مع إيلي، و3 مع المجاميع، بينما نصري شمس الدين قدم 3 مواويل، منهم واحد منفرد و2 مع صباح، و8 أغاني منها 2 منفردين والباقي مع صباح والمجموعة... نجد هنا أن العمل قام على صباح غنائياً دون أي مناقشة والباقي حاشية لا بد منها لكنها ليست الأساس مع بعض التمايز لدور نصري، وأيضاً سنجد في هذه الأوبريت الحوار المسرحي المكتوب بعناية فائقة متمايزاً وأفضل من نص "موسم العز" ولصباح حصة الأسد في تشخيص النص المسرحي، ويليها فيلمون وهبي وسهام شماس ومنصور الرحباني "مخول".

نستطيع القول بكل ثقة إن الرحابنة هنا قدما مع صباح تجربة مختلفة كلياً عما قدماه مع فيروز و رونزا ومن ثم مع هدى وصولا إلى رفيق علي أحمد وغسان صليبا، تجربتهما مع صباح هي تجربة تتطلب الصوت القوي المطواع، والأداء الصحيح، التلوين في المقامات، والسلاسة، والثقة، والشخصية القوية والجميلة شكلاً ومضموناً، وشهرة النجم، والتزامه، ومحبة الجمهور له، أقصد أن الأخوين رحباني مع صباح بدأ بالمغامرة والتجريب على أكثر من صعيد مستغلين قوة صوتها وحياتها وتواضعها وشهرتها، ولم تكن هي لتناقشهما لأنها مؤمنة بهما كما تصرح دائماً،...

الرحابنة أكثر من يعرف نوع وخصوصية ومقدرة الفنان الذي يتعامل معهما، لا بل كانا يفرضان على كل أصوات الجيل الثاني والثالث من فناني لبنان أمثال جوزيف عازار، ملحم بركات، ايلي شويري، وسمير يزبك، وهدى ورونزا، وجوزيف ناصيف، وغسان صليبا، و آخرين الدخول إلى فرقتهم الفنية ككورس إلى حين الاقتناع والقطف، بينما صباح كانت جاهزة للمغامرة، ليس للعمل الحديث فقط بل لتقديم اللون التراثي الفولكلور كما يشتهون ويرون، فما قدمته صباح معهما كان من أجواء التراث اللبناني مع إضافات تجعله باقياً للأجيال، وللحق نجد "موسم العز" ودواليب الهوا" مرجعاً لكل الباحثين عن الفولكلور الغنائي التراثي اللبناني والعربي، ومن بعدهما أطل روميو لحود ليلعب في السينوغرافيا، وعلى الزي والمظهر التراثي... الرحابنة تعمدا الغوص بلون صباح حتى الذوبان احتراماً منهما لطبيعة ما يفكران بتقديمه من عمل تراثي، فاستغلا مساحة الصوت كما ذكرنا إلى جانب الموهبة، معتقدين كما أخبرنا منصور ذات جلسة بأن تقديم غناء التراث يحتاج إلى صوت يحبه الناس، فيقتنعون بما يقدمه وما سيقدم عبر نجمهم بسرعة، لكونهم يؤمنون بالصوت وصاحبه، وحينما أردنا تقديم ذلك استعنا بصباح