حداثي واقعي وغير مرئي ومباشر في فهم حقيقتنا
رحيل شاعر الجدلية الصادمة في قصيدة النثر العربية
بقلم||جهاد أيوب
ما عُدتُ أحتمل الأرض
فالأكبر من الأرض لا يحتملها.
ما عُدت أحتمل الأجيال
فالأعرف من الأجيال يضيق بها.
ما عُدتُ أحتمل الجالسين
فالجالسون دفنوا.).. بهذه الكلمات الشاعرية المتألمة قد يختصر أنسي الحاج مشواره في قصيدة "تحت حطب الغضب"، ويترجل الدنيا بما حملت وبمن فيها تاركاً لنا جدلية لم يكترث لها، وحداثة ضحك منها حتى العمق كونه يكتب من أجل الصوت والإنسان الذي عاشره وصادقة وتألم له حينما نظر من حوله فلم يجده في وطن شغل فيه عمره وأشغله بحبره، وواقعية اقتنص منها بذكاء ودراية وتعمد ما يخدم حضوره ورنين كلماته وجرس حروفه وصدى معانيها.
أنسي الحاج هو ذاك المناضل والباحث والمقاتل والحبيب والعاشق والمعشوق غير المرئي وغير الثرثار في قصيدة النثر والأدب المباشر، ورغم الشوشرة التي رافقت ضجيج خوفهم من تجربته استمر في محرابه الهادئ العالم العارف.
في شعر نثر أنسي الحاج حكاية من أوراق زمننا وما في أزمان أسلافنا وصبر فرحنا وماء العطشان، يروي جداول لحظاتنا كما يشتهي...قد تقول هو الغرور ولكنك حينما تدرك شاعريته وشعره تعلم أن الغرور يسكن في أصابعه، ويتدفق انسيابياً إلينا بقصيدة تقرأ بصوت مرتفع ولا تعرف الأفول، قصيدة تغنيك ولا تغنى، تحدثك ولا تبوح بصوتها، تصفعك ولا ترفع يدها، تترك بصمة دون أن تسلم فقد يكون مرسلها قابعاً خلف الستار عفواً خلف ستائر الحديد –الحرير - الشجر يراقبنا ولا نعرف مراقبته، يحادثنا ولا نتمكن من محادثته...هو هكذا، وعليك أن تحب نتاجه كما هو وليس كما نحن...
الأديب المفكر
أنسي الحاج هو الأديب في تنقية مفرداته وأفكاره، وهو المفكر في استخدام مواضيعه كي نتعلم ونشغل رأسنا ونهذب أذهاننا، وهو الشاعر الأهم في عالمه والأكثر شجاراً بين الزملاء فتجد هذا الشاعر لا يعجب بأنسي علماً لم يعرفه بعد، ولم يطلع على كل جنون قصائده، وذاك المنظر يخوض معه معارك حاقده لكون أنسي من الجيل المغاير أو من رواد الحداثة في لجم القصيدة التقليدية وحر وحر وحر...
أنسي الحاج كل هذا التناقض في الكلمة والحكاية والعشق، تطرف في الحب ولا مجال لسرد ما نعرفه من علاقات نرجسية تخصه، وحمل سيف نظراته كي يتابع ما بدأه في لحظة غسل أدمغتنا بجمل بالية وأفكار خاوية، هو ضد تلك الهمجية في التقاليد والعادات وما يحتويه بعض الكتب من حشو لا يغنينا بل يزيد من تخلفنا...
صمد أنسي الحاج محارباً ورحل عن وطنه الذي أحبه فارساً باكياً متألماً لكونه لم يشاهد الإنسان فيه...رحل وفي إذنيه سحر صوت فيروز التي تعصب لها، وجبال صوت صباح التي احترمها، وسيرة غنية من فيضانات الكلام...
سطور من حياته
ولد أنسي الحاج عام 1937 و توفي في 18 من شباط 2014
أبوه الصحافي والمتّرجم لويس الحاج وامه ماري عقل، من قيتولي، قضاء جزّين.
تعلّم في مدرسة الليسه الفرنسية ثم في معهد الحكمة.
بدأ ينشر قصصاً قصيرة وأبحاثاً وقصائد منذ 1954 في المجلاّت الادبية وهو على مقاعد الدراسة الثانوية.
دخل الصحافة اليومية (جريدة "الحياة" ثم "النهار") محترفاً عام 1956، كمسؤول عن الصفحة الادبية. ولم يلبث ان استقر في "النهار" حيث حرر الزوايا غير السياسية سنوات ثم حوّل الزاوية الادبية اليومية إلى صفحة ادبية يومية.
عام 1964 أصدر "الملحق" الثقافي الاسبوعي عن جريدة "النهار" وظلّ يصدره حتى 1974. وعاونه في النصف الأول من هذه الحقبة شوقي ابي شقرا.
عام 1957 ساهم مع يوسف الخال وأدونيس في تأسيس مجلة"شعر" وعام 1960 اصدر في منشوراتها ديوانه الأول "لن"، وهو أول مجموعة قصائد نثر في اللغة العربية.
له ستّ مجموعات شعرية "لن" 1960، "الرأس المقطوع" 1963، "ماضي الايام الآتية" 1965، "ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة" 1970، "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" 1975، "الوليمة "1994 وله كتاب مقالات في ثلاثة اجزاء هو "كلمات كلمات كلمات" 1978، وكتاب في التأمل الفلسفي والوجداني هو "خواتم" في جزئين 1991 و 1997، ومجموعة مؤلفات لم تنشر بعد. و"خواتم" الجزء الثالث قيد الاعداد.
تولى رئاسة تحرير العديد من المجلات إلى جانب عمله الدائم في "النهار"، وبينها "الحسناء" 1966 و"النهار العربي والدولي" بين 1977 و 1989.
نقل إلى العربية منذ 1963 أكثر من عشر مسرحيات لشكسبير ويونيسكو ودورنمات وكامو وبريخت وسواهم، وقد مثلتها فرق مدرسة التمثيل الحديث (مهرجانات بعلبك)، ونضال الأشقر وروجيه عساف وشكيب خوري وبرج فازليان.
متزوج من ليلى ضو (منذ 1957) ولهما ندى ولويس.
رئيس تحرير "النهار" من 1992 إلى 30 ايلول 2003 تاريخ استقـالته.
تُرجمت مختارات من قصائده إلى الفرنسية والإنكليزية والألمانية والبرتغالية والارمنية والفنلندية. صدرت انطولوجيا "الابد الطيّار" بالفرنسية في باريس عن دار "أكت سود" عام 1997 وانطولوجيا " الحب والذئب الحب وغيري" بالألمانية مع الاصول العربية في برلين عام 1998. الأولى اشرف عليها وقدّم لها عبد القادر الجنابي والأخرى ترجمها خالد المعالي وهربرت بيكر.
يعتبر أنسي الحاج من رواد " قصيدة النثر " في الشعر العربي المعاصر.